فصل: باب ما جاء في السلام على اليهودي والنصراني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الاستذكار لمذاهب علماء الأمصار فيما تضمنه الموطأ من معاني الرأي والآثار ***


باب ما جاء في النرد

1787- مالك عن موسى بن ميسرة عن سعيد بن أبي هند عن أبي موسى الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله قال أبو عمر قد روي هذا الحديث عن سعيد بن أبي هند عن نافع مولى بن عمر وأسامة بن زيد وعبد الله بن سعيد ابنه وقد اختلف فيه على سعيد وعلى موسى بن ميسرة أيضا على ما قد ذكرناه في التمهيد‏.‏

1788- مالك عن علقمة بن أبي علقمة عن أمه عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنه بلغها أن أهل بيت في دارها كانوا سكانا فيها وعندهم نرد فأرسلت إليهم لئن لم تخرجوها لأخرجنكم من داري وأنكرت ذلك عليهم‏.‏

1789- مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أنه كان إذا وجد أحدا من أهله يلعب بالنرد ضربه وكسرها قال أبو عمر إنكار عائشة لهذا لا يكون إلا لعلم عندها لا رأيها وكذلك عبد الله بن عمر لا يكسر النرد ويضرب اللاعب إلا وقد بلغه فيها النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم لأنه مبين عن الله تعالى ما يحل وما لا يحل وما يكره وما يستحب قال يحيى سمعت مالكا يقول لا خير في الشطرنج وغيرها وسمعته يكره اللعب بها ويعدها من الباطل ويتلو هذه الآية ‏(‏فماذا بعد الحق إلا الضلل‏)‏ ‏[‏يونس 32‏]‏‏.‏

قال أبو عمر النرد قطع ملونة تكون من خشب البقس وغيره مثل الأبنوس وشبهه وتكون من العاج ومن غير ذلك يقال لهما الطبل ويعرف أيضا بالكعاب وتعرف بالأرن وتعرف بالنردشير حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا إبراهيم بن إسحاق النيسابوري قال حدثنا يحيى بن يحيى قال حدثنا الليث بن سعد عن بن إلهاد عن موسى بن ميسرة عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند عن أبيه عن أبي موسى قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر عنده النرد فقال عصى الله ورسوله من ضرب بكعابها يلعب بها وروى سفيان الثوري عن علقمة عن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال من لعب بالنردشير فكأنما غمس يده في لحم خنزير وقد ذكرنا طرق هذا الحديث عن الثوري في التمهيد وذكر بن وهب قال حدثنا سليمان بن بلال عن يحيى بن سعيد قال دخل عبد الله بن عمر داره فإذا أناس يلعبون فيها بالنرد فصاح بن عمر وقال ما لداري يلعبون فيها بالأرن قال وكانت النرد تدعى في الجاهلية بالأرن قال بن وهب‏.‏

وحدثني جرير بن حازم عن الحسن بن عمارة عن علي بن الأقمر عن مسروق بن الأجدع عن بن مسعود قال إياكم وهذه الكعاب الموشومات اللائي يزحزحن فإنهن من الميسر وقال عثمان بن أبي سليمان أول من قدم بالنرد إلى مكة أبو قيس بن عبد مناف بن زهرة فوضعها بفناء الكعبة فلعب بها وعلمها قال أبو عمر رويت الكراهة في اللعب بالنرد عن عثمان بن عفان وبن مسعود وبن عمر وعائشة وأبي موسى وسعيد بن المسيب والقاسم بن محمد وجماعة كلهم يكره اللعب بها من جهة القمار وروى شعبة عن عبد ربه قال سمعت سعيد بن المسيب وسئل عن النرد فقال إذا لم يكن قمارا فلا بأس به وروي عن عبد الله بن المغفل وعن الشعبي وعكرمة أنهم كانوا يلعبون بالنرد وهذا لا يجوز أن يضاف إليهم إلا على غير سبيل القمار ولنهي الله ‏(‏عز وجل‏)‏ عن الميسر ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله وكل من خالف السنة والحق فلا حجة في قوله ولا عمله بل هو محجوج مخصوم بها وجماعة الفقهاء يكرهون اللعب بالنرد ويحرمون القمار بها وبغيرها وقال الحسن النرد من ميسر العجم‏.‏

وأما الشطرنج فأجمع العلماء أن اللعب بها قمار لا يجوز وأخذ المال وأكله قمارا بها لا يحل وأجمع مالك وأصحابه على أنه لا يجوز اللعب بالنرد ولا بالشطرنج وقالوا لا تجوز شهادة المدمن المواظب على لعب الشطرنج‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه يكره اللعب بالشطرنج وبالنرد وبالأربعة عشر وبكل اللهو وقالوا فإن لم يظهر من اللاعب بها كبيرة وكانت محاسنه أكثر من مساوئه قبلت شهادته قال الشافعي أكره اللعب بالنرد للخبر واللعب بالشطرنج والحمام بغير قمار وإن كرهناه أخف حالا من اللعب بالنرد وقال أصحاب الشافعي لا تسقط عندنا - في مذهبه - شهادة اللاعب بالنرد وبالشطرنج إذا كان عدلا في جميع أحواله لم يظهر منه سفه ولا ريبة ولا علمت منه كبيرة إلا أن يلعب بها قمارا فإن لعب بها قمارا وكان بذلك معروفا سفه بها نفسه وسقطت عدالته لأكله المال بالباطل وقال إسحاق بن راهويه إذا لعب بالنرد أو بالشطرنج على غير معنى القمار يريد به التعليم والمكايدة فهو مكروه لا يبلغ ذلك إسقاط شهادته‏.‏

وأما الليث بن سعد فذكر بن وهب عنه أنه قال الشطرنج شر من النرد ولا خير فيها ولا تجوز شهادة اللاعب بها وقال بن شهاب هي من الباطل ولا أحبها وقد روي عنه أنه قال لا بأس باللعب بها ما لم يكن قمارا وقد روي عن جماعة من العلماء أنهم أجازوا اللعب بالشطرنج على غير قمار وأنهم لعبوا بها على غير قمار وقد ذكرناهم في التمهيد‏.‏

وأما القمار فلا يجوز عند أحد منهم في شيء من الأشياء وأكل المال به باطل على كل حال قال الله عز وجل ‏(‏ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالبطل‏)‏ ‏[‏النساء 29‏]‏‏.‏ وقد روي عن مجاهد وطاوس وعطاء وإبراهيم النخعي أنهم قالوا كل شيء من القمار فهو من الميسر حتى لعب الصبيان بالجوز‏.‏

كتاب السلام

باب العمل في السلام

1790- مالك عن زيد بن أسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يسلم الراكب على الماشي وإذا سلم من القوم واحد أجزأ عنهم قال أبو عمر قد روي هذا المعنى بإسناد متصل من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلا أن من أهل العلم من ينكره ويضعف إسناده حدثني خلف بن قاسم قال حدثني الحسن بن رشيق قال حدثني إسحاق بن إبراهيم بن يونس قال حدثني عبد الأعلى بن حماد قال حدثني يعقوب بن إسحاق الحضرمي قال حدثني سعيد بن خالد قال حدثني عبد الله بن الفضل عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي بن أبي طالب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يجزئ من الجماعة إذا مرت أن يسلم أحدهم ويجزئ من القعود أن يرد أحدهم وقد روي من حديث زيد بن أسلم بهذا اللفظ حدثنيه عبد الوارث قال حدثني قاسم قال حدثني بن وضاح قال حدثني يوسف بن عدي قال حدثني عيسى بن يونس عن بن جريج عن زيد بن أسلم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر القوم على المجلس فسلم منهم رجل أجزأ ذلك عنهم وإذا رد من أهل المجلس رجل أجزأ ذلك عنهم قال أبو عمر معنى قوله في الابتداء أجزأ ذلك عنهم يعني أجزأ ذلك من السنة المندوب إليها كما يقال من أتى الوليمة وهو صائم أجزأه التبرك والدعاء وإنما قلنا هذا لإجماع العلماء على أن الابتداء بالسلام سنة وأن الرد فرض لقول الله عز وجل ‏(‏وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها‏)‏ النساء 86‏.‏

وأما اختلاف الفقهاء في هذا الباب فقال مالك والشافعي وأصحابهما وهو قول أهل المدينة إذا سلم رجل على جماعة من الرجال فرد عليه واحد منهم أجزأ هو عنهم وشبهه الشافعي بصلاة الجماعة والتفقه في دين الله وغسل الموتى ودفنهم والصلاة عليهم والخروج إلى أرض العدو لدعائهم إلى الإسلام وقتالهم عليه قال فهذه فروض كلها على الكفاية لا يحل الاجتماع على تضييعها ومنه تشميت العاطس قال أبو عمر حديث زيد بن أسلم هذا يدل على أن هذا الفرض لا يتعين على كل الجماعة الذين سلم عليهم وأنه إذا قام برد التحية واحد منهم أجزأ عنهم وقال الطحاوي كان أبو يوسف ينكر الحديث الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال إذا رد السلام بعض القوم أجزأ عن جميعهم وقال لا يجزئ إلا أن يردوا جميعا وقال الطحاوي رد السلام من الفرائض المتعينة على كل إنسان بنفسه لا ينوبه فيها عنه غيره لا من الفروض التي على الكفاية التي إذا قام بها أحدهم سقط الفرض عنهم قال أبو عمر ليس مع الطحاوي بما قال أثر يحتج به مرسل ولا مسند وقد جاء الحديث برد السلام مما دل أنه من الفروض التي على الكفاية فالمصير إليه أولى من الرأي وبالله التوفيق قال أبو عمر الدليل على أن الابتداء بالسلام سنة وفضيلة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال من ابتدأ قوما بالسلام فضلهم بعشر حسنات وقوله عليه السلام في المتهاجرين خيرهما الذي يبدأ بالسلام والدليل على أن رد السلام فريضة قول الله عز وجل ‏(‏فحيوا بأحسن منها أو ردوها‏)‏ النساء والسنة أن يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد حدثني أحمد بن قاسم وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثني الحارث بن أبي أسامة قال حدثني روح بن عبادة قال حدثني بن جريج قال أخبرنا أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والماشيان جميعا أيهما بدأ بالسلام فهو أفضل حدثني أحمد وعبد الوارث قالا حدثنا قاسم قال حدثني الحارث قال حدثني روح بن عبادة قال حدثني بن جريج قال أخبرني زياد بن سعد أن ثابتا مولى عبد الرحمن بن زيد أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير‏.‏

1791- مالك عن وهب بن كيسان عن محمد بن عمرو بن عطاء أنه قال كنت جالسا عند عبد الله بن عباس فدخل عليه رجل من أهل اليمن فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ثم زاد شيئا مع ذلك أيضا قال بن عباس وهو يومئذ قد ذهب بصره من هذا قالوا هذا اليماني الذي يغشاك فعرفوه إياه قال فقال بن عباس إن السلام انتهى إلى البركة قال أبو عمر قول بن عباس هذا أخذه من قول الله تعالى ‏(‏رحمت الله وبركته عليكم أهل البيت‏)‏ ‏[‏هود 73‏]‏‏.‏

روى الأعمش عن مجاهد عن بن عباس قال انتهوا في السلام حيث انتهت الملائكة يا أهل البيت الصالحين رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت وروى بن جريج عن عطاء أن بن عباس أتاهم يوما في مجلس فسلم عليهم فقال سلام عليكم ورحمة الله وبركاته فقلت وعليك السلام ورحمة الله وبركاته وعفوه ومغفرته فقال من هذا فقلت عطاء فقال انتهى السلام وبركاته ثم تلا ‏(‏رحمت الله وبركته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد‏)‏ ‏[‏هود 73‏]‏‏.‏

سئل مالك هل يسلم على المرأة فقال أما المتجالة فلا أكره ذلك‏.‏

وأما الشابة فلا أحب ذلك قال أبو عمر اختلف السلف والخلف في السلام على النساء فقال منهم قائلون لا يسلم الرجال على النساء إذا لم يكن منهم ذوات محرم وممن قال ذلك الكوفيين قالوا لما يسقط عنهن الأذان والإقامة والجهر بالقراءة في الصلاة سقط عنهن رد السلام فلا يسلم عليهن وقال آخرون جائز أن يسلم الرجل على المرأة المتجالة دون الشابة التي يخشى من ردها الفتنة قال أبو عمر قد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سلم على النساء وفيه الأسوة الحسنة حدثنا سعيد وعبد الوارث قالا حدثنا قاسم حدثنا محمد بن إسماعيل قال حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا بن أبي حسين عن شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد بن السكن أنه سمعها تقول مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة فسلم علينا‏.‏

باب ما جاء في السلام على اليهودي والنصراني

1792- مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن اليهود إذا سلم عليكم أحدهم فإنما يقول السام عليكم فقل عليك هكذا رواه يحيى بلفظ الواحد من غير واحد وتابعه طائفة من الرواة عن مالك على ذلك وقال القعنبي عليكم بلفظ الجماعة من غير واو أيضا وكذلك رواه الدراوردي عن عبد الله بن دينار عن بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال فيه وعليكم بالواو وكذلك قال قتادة عن أنس وعليكم بالواو قال أبو داود وكذلك رواية عائشة وأبي عبد الرحمن الجهني وأبي بصرة الغفاري قال أبو عمر روى شعبة عن قتادة أنه سمعه يحدث عن أنس أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم إن أهل الكتاب يسلمون علينا فكيف نرد عليهم فقال قولوا وعليكم‏.‏

وحدثني عبد الوارث قال حدثني قاسم قال حدثني أحمد بن زهير قال حدثني أبي قال حدثني بن نمير عبد الله عن محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي حبيب عن مرثد بن عبد الله اليزني عن أبي عبد الرحمن الجهني قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول إني راكب غدا إلى يهود فلا تبدؤوهم بالسلام فإذا سلموا عليكم فقولوا وعليكم وروى جماعة من الأئمة عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم معنى حديث أبي عبد الرحمن الجهني سواء وعلى ذلك جمهور العلماء وقد أجاز قوم أن يبدؤوا بالسلام ونزعوا بأشياء قد ذكرتها والقائلين بها في التمهيد وقال آخرون الرد على أهل الذمة وعلاك السلام أو وعلاكم السلام أي ارتفع عنكم السلام وقالت فرقة يرد عليهم وعليكم السلام بكسر السين يعني الحجارة وهذا كله ليس بشيء ولا يجوز أن يلتفت إليه ولا يعرج عليه وفي السنة الأسوة الحسنة وما سواها فلا معنى له ولا عمل عليه وقد حدثنا سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثني قاسم بن أصبغ قال حدثني إسماعيل بن إسحاق قال حدثني سليمان بن حرب قال حدثني حماد بن زيد عن أيوب عن بن أبي مليكة عن عائشة أن اليهود دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا السام عليك فقال النبي عليه السلام وعليكم فقالت عائشة رضي الله عنها السام عليكم ولعنة الله وغضبه يا أخوة القردة والخنازير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يا عائشة عليك بالحلم وإياك والجهل قالت يا رسول الله أما سمعت ما قالوا ‏!‏ قال سمعت فقال أما سمعت ما رددت عليهم فاستجيب لنا فيهم ولم يستجب لهم فينا قال أبو عمر السام الموت بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام والسام الموت‏.‏

باب جامع السلام

1793- مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أبي مرة مولى عقيل بن أبي طالب عن أبي واقد الليثي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس في المسجد والناس معه إذ أقبل نفر ثلاثة فأقبل اثنان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وذهب واحد فلما وقفا على مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم سلما فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة فجلس فيها‏.‏

وأما الآخر فجلس خلفهم‏.‏

وأما الثالث فأدبر ذاهبا فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ألا أخبركم عن النفر الثلاثة أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله‏.‏ وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه‏.‏

وأما الآخر فأعرض فأعرض الله عنه قال أبو عمر في هذا الحديث من معاني السلام أن القادم على القوم والآتي إليهم يبدؤهم بالسلام يسلم عليهم كما يصنع المار والماشي على القاعد والراكب على الماشي ألا ترى إلى قوله فلما وقفا على مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم سلما ولم يقل رد السلام - في الحديث - اكتفاء بمعرفة الناس بذلك وفي هذا الحديث معان من آداب مجالسة العالم والتحلق إليه والتخطي في حلقته إلى فرجة إن كانت فيها أو الجلوس حيث انتهى بالطلب المجلس وغير ذلك ومعنى استحياء الله من عبده المطيع مجازاته عن جميل فعله برحمته له وعفوه عنه وغير ذلك وإيوائه لمن أوى الله وإعراضه عن من أعرض عنه فلم يوجب له حسنة ولا محا عنه سيئة فلا يعرض عن مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وحلقته من غير عذر إلا من في قلبه مرض ونفاق وقد ذكرت ذلك كله مبسوطا في التمهيد والحمد لله كثيرا‏.‏

1794- مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك أنه سمع عمر بن الخطاب وسلم عليه رجل فرد عليه السلام ثم سأل عمر الرجل كيف أنت فقال أحمد إليك الله فقال عمر ذلك الذي أردت منك قال أبو عمر في هذا الخبر ما يدل على أن السنة المعمول بها في المجاوبة للسائل عن الحال حمد الله والثناء عليه فإن المسؤول عن حاله لا ينفك من نعمة الله ظاهرة وباطنة من صحة جسم وصرف بلاء وكشف كربة وتفريج غم ورزق يرزقه وخير يمنحه ذكر ذلك أو نسيه فإذا سئل عن ذلك فليحمد ربه فله الحمد كله على كل حال لا إله إلا هو الكبير المتعال‏.‏

1795- مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أن الطفيل بن أبي بن كعب أخبره أنه كان يأتي عبد الله بن عمر فيغدو معه إلى السوق قال فإذا غدونا إلى السوق لم يمر عبد الله بن عمر على سقاط ولا صاحب بيعة ولا مسكين ولا أحد إلا سلم عليه قال الطفيل فجئت عبد الله بن عمر يوما فاستتبعني إلى السوق فقلت له وما تصنع في السوق وأنت لا تقف على البيع ولا تسأل عن السلع ولا تسوم بها ولا تجلس في مجالس السوق قال وأقول اجلس بنا ها هنا نتحدث قال فقال لي عبد الله بن عمر يا أبا بطن وكان الطفيل ذا بطن إنما نغدو من أجل السلام نسلم على من لقينا قال أبو عمر في هذا الخبر ولفعل بن عمر هذا أصل كبير في السنة حدثنا عبد الوارث قال حدثنا قاسم قال حدثنا مضر بن محمد قال حدثنا محمد بن رمح قال حدثنا الليث قال حدثني يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عبد الله بن عمرو أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الإسلام خير قال تطعم الطعام وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف‏.‏

وحدثني عبد الوارث قال حدثني قاسم قال حدثنا مطلب بن شعيب قال حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثنا الليث يذكره بإسناده‏.‏

وحدثني عبد الوارث قال حدثني قاسم قال حدثني أحمد بن زهير قال حدثنا عاصم بن علي قال حدثنا قيس بن الربيع عن المقدام بن شريح بن هانئ عن أبيه عن جده قال قلت يا رسول الله حدثني بشيء يوجب الجنة قال بذل الطعام وإفشاء السلام‏.‏

وحدثني سعيد بن نصر وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثني إبراهيم بن عبد الله العبسي الكوفي قال حدثني وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم حدثني عبد الوارث قال حدثني قاسم قال حدثني مضر بن محمد قال حدثني إسحاق بن عمر بن سليط قال حدثني حماد بن سلمة عن عاصم عن زر عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة السلام بالمعرفة‏.‏

1796- مالك عن يحيى بن سعيد أن رجلا سلم على عبد الله بن عمر فقال السلام عليك ورحمة الله وبركاته والغاديات والرائحات فقال له عبد الله بن عمر وعليك ألفا ثم كأنه كره ذلك قال أبو عمر هذا الخبر كان باب العمل في السلام أولى به لقول بن عباس انتهى السلام إلى البركة وقد ذكرنا هذا المعنى موجودا هناك مجودا والحمد لله كثيرا‏.‏

1797- مالك أنه بلغه إذا دخل البيت غير المسكون يقال السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين قال أبو عمر قد روي عن جماعة من السلف العلماء بتأويل القرآن قالوا إذا دخلت بيتا ليس فيه أحد فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين روينا ذلك عن بن عباس وعلقمة وإبراهيم النخعي وعكرمة ومجاهد وأبي مالك وعطاء وبعضهم يقول السلام علينا من ربنا السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وكان عطاء يزيد أيضا والسلام على أهل البيت ورحمة الله والذي ذكره مالك مجتمع عليه في من دخل بيتا ليس فيه أحد وقال أبو مالك وكذلك إذا دخلت بيتا ليس فيه مسلم وإنما فيه أهل الذمة قلت مثل ذلك السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وقالوا إذا دخلت المسجد وليس فيه أحد فقل مثل ذلك وإذا دخلت مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فقل السلام على رسول الله وإن شئت قلت السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته وقال بن جريج قوله عز وجل ‏(‏فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية‏)‏ ‏[‏النور 61‏]‏‏.‏

قال على أهليكم قال وقال مجاهد في قوله ‏(‏فسلموا على أنفسكم‏)‏ قال بعضكم على بعض قال بن جريج وسئل عطاء أحق على الرجل إذا دخل على أهله أن يسلم قال نعم يسلم عليهم وقاله عمرو بن دينار وقالوا جميعا إذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة قال بن جريج‏.‏

وأخبرني أبو الزبير أنه سمع جابرا يقول إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم تحية من عند الله مباركة طيبة قال وما رأيت إلا يوجبه قال بن جريج‏.‏

وأخبرني أبو الزبير عن جابر بن عبد الله أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا دخل الرجل بيته فذكر الله تعالى عند دخوله وعند طعامه قال الشيطان لا مبيت ولا عشاء وإذا دخل فلم يذكر اسم الله عند دخوله قال الشيطان أدركتم المبيت وإن لم يذكر اسم الله عند طعامه قال قد أدركتم العشاء‏.‏

كتاب الاستئذان

باب الاستئذان

1798- مالك عن صفوان بن سليم عن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله رجل فقال يا رسول الله ‏!‏ أستأذن على أمي فقال نعم قال الرجل إني معها في البيت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذن عليها فقال الرجل إني خادمها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذن عليها أتحب أن تراها عريانة قال لا قال فاستأذن عليها قال أبو عمر لا أعلم هذا الحديث يتصل بهذا اللفظ مسندا بوجه من الوجوه وهو من صحاح المراسيل وقد رواه زياد بن سعد عن صفوان بن سليم كما رواه مالك حدثني أحمد بن عبد الله قال حدثني الحسن بن إسماعيل قال حدثني عبد الملك بن بحر قال حدثني محمد بن إسماعيل الصائغ قال حدثني سنيد بن داود قال حدثني حجاج قال أخبرنا بن جريج قال أخبرني زياد عن صفوان مولى لبني زهرة أنه أخبره عن عطاء بن يسار أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم أأستأذن على أمي قال نعم قال إنها ليس لها خادم غيري أفأستأذن عليها كلما دخلت قال أتحب أن تراها عريانة قال الرجل لا قال فاستأذن قال بن جريج‏.‏

وأخبرني الزهري قال سمعت هذيل بن شرحبيل الأزدي الأعمى أنه سمع بن مسعود يقول عليكم إذن على أمهاتكم قال بن جريج وسمعت عطاء يخبر عن بن عباس أنه قال له أستأذن على أختي يتيمة في حجري معي في البيت قال نعم فرددت عليه ليرخص لي فأبى وقال أتحب أن تراها عريانة قلت لا قال فاستأذن فراجعته أيضا فقال أتحب أن تطيع الله قلت نعم قال فاستأذن فقال لي سعيد بن جبير إنك لتردد عليه قال أردت أن يرخص لي قال بن جريج‏.‏

وأخبرني بن طاوس عن أبيه قال ما من امرأة أكره لي أن أرى عريتها من ذات محرم وكان يتشدد في ذلك وقال بن جريج قلت لعطاء أواجب على الرجل أن يستأذن على أمه وذات قرابته قال نعم قلت بأي وجبت قال قوله عز وجل ‏(‏وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا‏)‏ ‏[‏النور 59‏]‏‏.‏

حدثني عبد الرحمن قال حدثني علي قال حدثني أحمد قال حدثني سحنون قال حدثني بن وهب قال أخبرني يونس بن يزيد عن بن شهاب عن سعيد بن المسيب قال يستأذن الرجل على أمه وإنما أنزلت ‏(‏وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم‏)‏ في ذلك قال أبو عمر كان الشعبي وطاوس والضحاك يكرهون أن ينظر الرجل إلى شعر أمه وذات محرمة وروي عن جماعة من جلة العلماء أنهم كانوا يفلون أمهاتهم وممن روي ذلك عنهم محمد بن الحنفية وأبو جعفر محمد بن علي بن حسين ومورق العجلي وطلق بن حبيب وعلى مذهب هؤلاء فتوى جماعة علماء الأمصار في النظر إلى شعر الأم وإلى شعور ذوات المحارم من النساء وقد زدنا هذا المعنى بيانا في التمهيد‏.‏

1799- مالك عن الثقة عنده عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن بسر بن سعيد عن أبي سعيد الخدري عن أبي موسى الأشعري أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستئذان ثلاث فإن أذن لك فادخل وإلا فارجع هكذا قال مالك في إسناد حديثه هذا عن أبي سعيد الخدري عن أبي موسى الأشعري وهذا وهم ممن رواه هكذا وكذلك رواه بن أبي شيبة عن حفص بن غياث عن داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استأذن المستأذن ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع وهذا لا معنى له لأن أبا سعيد الخدري لم يرو هذا الحديث قط عن أبي موسى الأشعري وإنما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم وشهد بذلك لأبي موسى وقد خرج بعض الرواة له مخرجا كأنه قال عن أبي سعيد الخدري عن قصة أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد مضى لنا مثل هذا المعنى في كتاب الحج في حديث عمير بن سلمة الضمري عن البهزي في الحمار الوحشي وإنما الراوية له عن النبي صلى الله عليه وسلم عمير بن سلمة والبهزي هو صائد للحمار لأن عميرا روى الحديث عن قصة البهزي وكذلك قول من قال في هذا الحديث عن أبي سعيد عن أبي موسى وإنما هي قصة أبي موسى رواها أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم كما رواها أبو موسى وغيره حدثني أحمد بن محمد بن أحمد قال حدثني أحمد بن الفضل بن العباس قال حدثني محمد بن جرير قال حدثني سفيان بن وكيع قال حدثني عبد الأعلى عن الجريري عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال استأذن أبو موسى على عمر فقال السلام عليكم أأدخل فقال عمر واحدة ثم مكث ساعة ثم قال السلام عليكم أأدخل فقال عمر اثنتان ثم مكث ساعة فقال السلام عليكم أأدخل فقال عمر ثلاث ثم رجع فقال عمر للبواب ما صنع قال رجع قال علي به فلما جاءه قال ما هذا الذي صنعت قال السنة فقال والله لتأتيني على هذا ببرهان أو لأفعلن بك قال فأتانا ونحن جماعة من الأنصار فقال يا معشر الأنصار ألستم أعلم الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم الاستئذان ثلاث فإن أذن لك وإلا فارجع فجعل القوم يمازحونه قال أبو سعيد ثم رفعت رأسي إليه فقلت ما أصابك في هذا من العقوبة فأنا شريكك فأتيت عمر فأخبرته فقال ما كنت علمت بهذا قال أبو عمر في هذا الحديث من قول عمر واحدة اثنتان ثلاث دليل على أن عمر كان يعلم أن الاستئذان ثلاث وقد روي في ذلك أيضا عن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم الاستئذان ثلاث فدل ذلك على أن الذي جهله عمر من دعوى أبي موسى قوله فإن أذن لك وإلا فارجع هذا لا غير والله أعلم وقد روى أبو زميل الحنفي عن بن عباس قال استأذنت على النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثا فأذن لي أخبرنا عبد الله بن محمد بن عبد المؤمن قال حدثني أحمد بن جعفر بن حمدان قال حدثني عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال حدثني محمد بن جعفر قال حدثني شعبة عن أبي سلمة عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال أحمد بن حنبل‏.‏

وحدثني يزيد بن هارون قال حدثني داود بن أبي هند عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال استأذن أبو موسى على عمر ثلاث مرات فلم يأذن له فرجع فلقيه عمر فقال ما شأنك رجعت فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من استأذن ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع فقال لتأتيني على هذا بالبينة أو لأفعلن وأفعلن فأتى مجلس قومه فناشدهم فقلت أنا معك فشهدت له فخلى عنه وهذا لفظ حديث داود بن أبي هند‏.‏

وحدثني عبد الله قال حدثني أحمد قال حدثني عبد الله بن أحمد بن حنبل قال حدثني أبي قال حدثني عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن سعيد الجريري عن أبي سعيد الخدري قال سلم عبد الله بن قيس أبو موسى الأشعري على عمر بن الخطاب ثلاث مرات فلم يؤذن له فرجع فأرسل عمر في أثره لم رجعت قال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا سلم أحدكم ثلاثا فلم يجب فليرجع قال أبو عمر مثل هذا الحديث المختصر أوهم من جعله عن أبي سعيد عن أبي موسى وقد بان بما روينا أنه ليس كذلك إنما هو لأبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم شهد به لأبي موسى ورواه كما رواه أبو موسى وهذا هو الصحيح - إن شاء الله تعالى - وبالله التوفيق‏.‏

1800- مالك عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن غير واحد من علمائهم أن أبا موسى الأشعري جاء يستأذن على عمر بن الخطاب فاستأذن ثلاثا ثم رجع فأرسل عمر بن الخطاب في أثره فقال ما لك لم تدخل فقال أبو موسى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الاستئذان ثلاث فإن أذن لك فادخل وإلا فارجع فقال عمر ومن يعلم هذا لئن لم تأتني بمن يعلم ذلك لأفعلن بك كذا وكذا فخرج أبو موسى حتى جاء مجلسا في المسجد يقال له مجلس الأنصار فقال إني أخبرت عمر بن الخطاب أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الاستئذان ثلاث فإن أذن لك فادخل وإلا فارجع فقال لئن لم تأتني بمن يعلم هذا لأفعلن بك كذا وكذا فإن كان سمع ذلك أحد منكم فليقم معي فقالوا لأبي سعيد الخدري قم معه وكان أبو سعيد أصغرهم فقام معه فأخبر بذلك عمر بن الخطاب فقال عمر بن الخطاب لأبي موسى أما إني لم أتهمك ولكن خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو عمر قد تقدم إسناد هذا الحديث متصلا مسندا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم جماعة منهم أبي بن كعب وأبو سعيد الخدري ومن أسانيد هذا الحديث ما حدثناه عبد الرحمن بن يحيى قال حدثني علي بن محمد قال حدثني أحمد بن داود قال حدثني سحنون بن سعيد قال حدثني عبد الله بن وهب قال أخبرنا عمرو بن الحارث عن بكير بن الأشج أن بسر بن سعيد حدثه أنه سمع أبا سعيد الخدري يقول كنا في مجلس أبي بن كعب فأتى أبو موسى مغضبا حتى وقف فقال أنشدكم الله هل سمع أحد منكم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الاستئذان ثلاث فإن أذن لك وإلا فارجع قال أبي وما ذاك قال استأذنت على عمر أمس ثلاث مرات فلم يؤذن لي فرجعت ثم جئت اليوم فدخلت عليه فأخبرته أني جئته أمس فسلمت ثلاثا ثم انصرفت فقال قد سمعناك ونحن يومئذ على شغل فلو استأذنت حتى يؤذن لك قال استأذنتك كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال والله لأوجعن ظهرك وبطنك أو لتأتيني بمن يشهد لك على هذا فقال أبي والله لا يقوم معك إلا أحدثنا سنا الذي بجنبك قم يا أبا سعيد فقمت حتى أتيت عمر فقلت قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هذا قال بن وهب‏.‏

وقال مالك الاستئذان ثلاث لا أحب أن يزيد أحد عليها إلا من علم أنه لم يسمع فلا أرى بأسا أن يزيد إذا استيقن أنه لم يسمع قال‏.‏

وقال مالك الاستئناس فيما نرى -والله أعلم- الاستئذان قال أبو عمر يريد قول الله عز وجل ‏(‏لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها‏)‏ ‏[‏النور 27‏]‏‏.‏

وقد قرئت حتى تستأذنوا وتسلموا روي ذلك عن بن عباس وقد روي عنه أنه كان يقرؤها كما كان أبي يقرؤها وبن مسعود يقرآنها حتى تسلموا على أهلها وتستأذنوا قال عكرمة تعلمها بن عباس من أبي وكان يقرؤها كذلك وقال هشيم عن مغيرة عن إبراهيم هي في مصحف عبد الله كذلك وروى شعبة وهشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن بن عباس قال أوهم الكاتب إنما هي حتى تستأذنوا وتسلموا حدثني عبد الوارث قال حدثني قاسم قال حدثني بكر قال حدثني مسدد قال حدثني أبو داود عن طلحة بن يحيى عن أبي بردة عن أبي موسى أنه أتى عمر فاستأذن ثلاثا قال يستأذن أبو موسى يستأذن الأشعري يستأذن عبد الله بن قيس فلم يؤذن له فرجع فبعث إليه عمر فقال ما ردك فقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذن أحدكم ثلاثا فإن أذن له وإلا فليرجع فقال ائتني ببينة على هذا فقال هذا أبي فانطلقنا إلى عمر فقال نعم يا عمر لا تكن عذابا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر لا أكون عذابا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو عمر قد ذكرنا حديث الاستئناس هذا من طرق كثيرة في التمهيد وفي ألفاظه اختلاف متباين لكن المعنى المبتغى فيها لم يختلفوا فيه وهو أن الاستئذان ثلاث فإن أذن له وإلا فليرجع معناه - إن شاء الله -والله أعلم- لا أنه واجب عليه أن يرجع وإنما فائدة الحديث أنه ليس عليه أن يستأذن أكثر من ثلاث وقد قال بعض أهل العلم إن الاستئذان ثلاث مأخوذ من قول الله عز وجل ‏(‏يأيها الذين ءامنوا ليستئذنكم الذين ملكت أيمنكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلث مرت‏)‏ النور قال يريد ثلاث دفعات قال فورد القرآن في المماليك والصبيان وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس أجمعين قال أبو عمر ما ذكره هذا القائل وإن كان له وجه فإنه غير معروف عن العلماء في تفسير الآية التي نزع بها والذي عليه جمهور أهل العلم في قوله عز وجل في هذه الآية ‏(‏ثلث مرت‏)‏ أي في ثلاث أوقات ويدل على صحة هذا القول مساق الآية وتمامها فيها ‏(‏من قبل صلوة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلوة العشاء ثلث عورت لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوفون عليكم بعضكم‏)‏ ‏[‏النور 58‏]‏‏.‏

وللكلام في هذه الآية في معنى العورات موضع غير هذا وقد زعم قوم أن في قصة أبي موسى الأشعري مع عمر في الاستئذان دليل على أن عمر كان لا يقبل خبر الواحد العدل حتى يقع إليه ما ينضم إليه العلم الظاهر به كالشاهدين قال أبو عمر ليس كما زعموا لأنه معروف عن عمر من وجوه متواترة قبوله لخبر الواحد العدل ومحال أن يقبل خبر الواحد العدل وهو يدين برده ألا ترى أنه قبل خبر الضحاك بن سفيان وحده في ما جهله من ميراث المرأة من دية زوجها وكان يذهب إلى أنه لا يرث الدية إلا من يقوم بها من العاقلة حتى أخبره الضحاك بن سفيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إليه أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها وقبل أيضا خبر حمل بن مالك بن النابغة الهذلي الأعرابي أن في الجنين غرة عبدا أو وليدة وقد كان أشكل عليه القضاء في الجنين حتى أخبره حمل بن مالك بذلك وكانت قصته نزلت به في امرأتيه وقبل خبر عبد الرحمن بن عوف في الجزية وفي الطاعون ولا يشك ذو لب أن أبا موسى عند عمر أشهر وأولى بالعدالة من الأعرابي الهذلي المذكور وقد صح عن عمر في حديث السقيفة أنه قال إني قائل مقالة قد قدر لي أن أقولها فمن وعاها وحفظها فليحدث بها فكيف يأمر من سمع قوله أن يحدث به وينهى عن الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال صلى الله عليه وسلم نصر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها ثم أداها إلى من لم يسمعها فندب السامع لحديثه أن يؤديه كما سمعه ودعا له إذا فعل ذلك ولا وجه للتبليغ إلا القبول وإلا لم يكن للتبليغ فائدة وحسبك به فضيلة ولا يظن بعمر أنه لا يقبل خبر الواحد العدل إلا من قل نظره وفهمه وغلب عليه الجهل‏.‏

وأما قوله في حديث ربيعة لأبي موسى أما إني لم أتهمك ولكنني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا مما حمله عليه اجتهاده وقد أوضحنا هذا المعنى وسائر ما في الحديث من المعاني في التمهيد والحمد لله وإذا كان عمر مع لزومه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وطول مجالسته وقيامه وقعوده معه يخفى عليه مثل هذا من حديث الاستئذان ودية الجنين وميراث المرأة من دية زوجها وغير ذلك مما قد ذكرناه في غير موضع من كتابنا فكيف يجوز لأحد أن يقول في شيء من السنن فهذا لا يخفى على إمام ومعلم هذا لا يقوله إلا من لا تحصيل له ولا يشتغل بقوله لأن العلم لا يحيط بجميعه أحد ولا عيب على من فاته الأقل إذا كان عنده الأكثر وبالله التوفيق‏.‏

باب التشميت في العطاس

1801- مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن عطس فشمته ثم إن عطس فشمته ثم إن عطس فشمته ثم إن عطس فقل إنك مضنوك قال عبد الله بن أبي بكر لا أدري أبعد الثالثة أو الرابعة‏.‏

1802- مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر كان إذا عطس فقيل له يرحمك الله قال يرحمنا الله وإياكم ويغفر لنا ولكم قال أبو عمر أما حديث مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن أبيه فلم تختلف الرواية عن مالك في إرساله وقد روي مسندا من حديث سلمة بن الأكوع عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكرناه من طرق في التمهيد منها ما حدثناه عبد الوارث قال حدثني قاسم قال حدثني الخشني قال حدثني بندار قال حدثني يحيى بن سعيد عن عكرمة بن عمار قال حدثني إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه قال عطس رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فشمته ثم عطس فشمته ثم عطس فقال له في الثالثة إنك مزكوم وروي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يشمت المسلم إذا عطس ثلاث مرات وإن زاد فهو زكام رواه بن عجلان عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن سعيد المقبري عن أبي هريرة وقد ذكرناه في التمهيد وذكرنا الاختلاف على بن عجلان فيه‏.‏

وأما كيفية تشميت العاطس فأحسن ما روي فيه حديث عبد الله بن دينار عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله وإذا قال الحمد لله فليقل له أخوه يرحمك الله فإذا قيل له ذلك فليقل يهديكم الله ويصلح بالكم وقد ذكرناه من طرق في التمهيد ومثله سواء من حديث عائشة وقد ذكرناه بإسناده في التمهيد أيضا ومن أحسن ذلك أيضا حديث سالم بن عبيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فعطس رجل من القوم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عطس أحدكم فليحمد الله وليقل له من عنده يرحمك الله وليرد يغفر الله لنا ولكم ومن حديث بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله وقد ذكرناهما في التمهيد بأسانيدهما وطرقهما‏.‏

وأما اختلاف الفقهاء في كيفية تشميت العاطس فقال مالك لا بأس أن يقول العاطس لمن شمته يهديكم الله ويصلح بالكم وإن شاء الله قال يغفر الله لنا ولكم كل ذلك جائز وهو قول الشافعي أي ذلك قال فحسن وقال أصحاب أبي حنيفة يقول يغفر الله لكم ولا يقول يهديكم الله ويصلح بالكم ورووا عن إبراهيم النخعي أنه قال يهديكم الله ويصلح بالكم شيء قالته الخوارج لأنهم لا يستغفرون للناس واختار الطحاوي قوله يهديكم الله ويصلح بالكم لأنه أحسن من تحيته لأن حال من هدي وأصلح باله فوق المغفور له قال أبو عمر ليس ما اختاره الطحاوي بأحسن من غيره وقد حدثني خلف بن قاسم قال حدثني أحمد بن محمد المكي قال حدثني علي بن عبد العزيز قال حدثني أبو نعيم قال حدثني سفيان عن حكيم بن الديلم عن أبي بردة عن أبي موسى قال كان اليهود يتعاطسون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء أن يقول يرحمكم الله فكان يقول يهديكم الله ويصلح بالكم قال أبو عمر انفرد به حكيم بن الديلم وهو ثقة مأمون وقد أشبعنا آداب هذا الباب بالآثار في التمهيد وقد أجمع العلماء على أن من عطس فلم يحمد الله لم يجب على جليسه تشميته وفي ذلك آثار قد ذكرناها ويقال سمت العاطس وشمته قال الخليل تسميت العاطس لغة في تشميته وروي عن ثعلب أنه سئل عن معنى التشميت والتسميت فقال أما التشميت فمعناه أبعد الله عنك الشماتة وجنبك ما يشمت به عليك‏.‏

وأما التسميت فمعناه جعلك الله على سمت حسن ونحو هذا وقال أهل الظاهر تشميت العاطس واجب متعين على كل جليس سامع تحميد العاطس وقالت طائفة من الفقهاء هو واجب على الكفاية كرد السلام وقال آخرون هو ندب وإرشاد وأدب وليس منه شيء واجب‏.‏

باب ما جاء في الصور والتماثيل

1803- مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أن رافع بن إسحاق مولى الشفاء أخبره قال دخلت أنا وعبد الله بن أبي طلحة على أبي سعيد الخدري نعوده فقال لنا أبو سعيد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه تماثيل أو تصاوير شك إسحاق لا يدري أيتهما قال أبو سعيد قال أبو عمر قيل في هذا الحديث أن معناه ملائكة الوحي وقيل ملائكة الوحي وغير ملائكة الوحي وكأن قائل هذا استدل بالكرام الحافظين الكاتبين أنهم يدخلون مع المرء حيث ما دخل‏.‏

1804- مالك عن أبي النضر عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أنه دخل على أبي طلحة الأنصاري يعوده قال فوجد عنده سهل بن حنيف فدعا أبو طلحة إنسانا فنزع نمطا من تحته فقال له سهل بن حنيف لم تنزعه قال لأن فيه تصاوير وقد قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قد علمت فقال سهل ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما كان رقما في ثوب قال بلى ولكنه أطيب لنفسي قال أبو عمر هذا الحديث يدل على فساد تأويل من تأول في الحديث الأول ما ذكرنا لأن أبا طلحة وسهل بن حنيف حملاه على العموم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده ولا مدخل لملائكة الوحي بعده صلى الله عليه وسلم في بيت أبي طلحة ولا غيره والله أعلم وهذا الحديث منقطع غير متصل لأن عبيد الله بن عبد الله لم يدرك سهل بن حنيف ولا أبا طلحة ولا حفظ له عنهما ولا عن أحدهما سماع ولا له سن يدركها به والله أعلم ولا خلاف أن سهل بن حنيف مات سنة ثمان وثلاثين بعد شهود صفين وصلى عليه علي - رضي الله عنه - فكبر عليه ستا وكذلك كان يفعل بالبدريين‏.‏

وأما أبو طلحة فاختلف في وقت وفاته اختلافا متباينا فقيل توفي سنة أربع وثلاثين في خلافة عثمان رضي الله عنه وذكر أبو زرعة قال سمعت أبا نعيم يحدث عن حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال سرد أبو طلحة الصوم بعد النبي صلى الله عليه وسلم أربعين سنة وقد ذكرنا الشواهد على هذا القول في بابه من كتاب الصحابة وهو أصح إن شاء الله تعالى والصحيح في هذا الحديث أن بين عبيد الله وبين أبي طلحة وسهل بن حنيف فيه بن عباس كذا رواه الزهري من رواية بن أبي ذئب وغيره حدثني خلف بن قاسم قال حدثني بن أبي الخصيب قال حدثني عبد الله بن الحسن بن أبي شعيب قال حدثني يحيى بن عبد الله البابلي قال حدثني أبو الحارث محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب العامري عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عبد الله بن عباس عن أبي طلحة صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا تدخل الملائكة بيتا فيه تصاوير قال أبو عمر هذا يدل على أن أبا النضر وهم في إسناد هذا الحديث والله أعلم حدثني خلف بن قاسم قال حدثني أبو الطاهر محمد بن أحمد القاضي الذهلي قال حدثني أبو مسلم الكشي قال حدثني أبو عاصم عن بن أبي ذئب عن بن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن بن عباس عن أبي طلحة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة قال أبو عمر كان هذا الحديث غير حديث أبي النضر فهو أشبه بمعنى حديث أبي سعيد الخدري وما شاع في ذلك من التأويل ساغ في هذا وليس حديث أبي النضر كذلك فيما تدل عليه معاني ألفاظه وقد تابع بن أبي ذئب على هذا الإسناد والمتن عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون حدثني خلف بن قاسم قال حدثني أبو الطاهر الذهلي محمد بن أحمد بن عبد الله بن نضر بن بجير قال حدثني أبو مسلم الكشي قال حدثني عبد الله بن رجاء قال حدثني عبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون عن بن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله عن بن عباس عن أبي طلحة الأنصاري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة قال أبو عمر رواه الأوزاعي عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله قال حدثني أبو طلحة الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة فوهم فيه الأوزاعي إذ قال عن عبيد الله قال حدثني أبو طلحة وقد ذكرنا الإسناد عن الأوزاعي في التمهيد وليس في حديث بن شهاب هذا استثناء ما كان رقما في ثوب وذلك موجود في حديث أبي النضر فكأنهما حديثان والله أعلم‏.‏

1805- مالك عن نافع عن القاسم بن محمد عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها اشترت نمرقة فيها تصاوير فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم قام على الباب فلم يدخل فعرفت في وجهه الكراهية وقالت يا رسول الله أتوب إلى الله وإلى رسوله فماذا أذنبت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فما بال هذه النمرقة قالت اشتريتها لك تقعد عليها وتوسدها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم أحيوا ما خلقتم ثم قال إن البيت الذي فيه الصور لا تدخله الملائكة قال أبو عمر هذا الحديث من أصح ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب وهو مخالف لحديث أبي النضر في قوله إلا ما كان رقما في ثوب لأن هذا قد صرح بأن الصورة في الثوب لا يجوز اتخاذها ولا استعمال الثوب الذي هي فيه وذكر فيه من الوعيد ما ترى وهو غاية في تحريم عمل الصور في الثياب وغيرها ولم يخص منها ما يوطأ ويتوسد مما يمتهن وينصب هذا ما يوجبه ظاهر هذا الحديث وهو أشد حديث روي في هذا الباب وهو أحسنها إسنادا وأصحها نقلا وقد روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت كان على بابي درنوق فيه الخيل ذوات الأجنحة فقال النبي صلى الله عليه وسلم ألقوا هذا وقد ذكرنا إسناده في التمهيد أخبرنا عبد الله بن محمد بن أسد قال حدثني بكر بن محمد بن العلاء قال حدثني الحسن بن المثني قال حدثني أبي قال حدثني معاذ بن هشام قال‏.‏

وحدثني أبي عن قتادة عن نضر بن أنس أن رجلا أتى عبد الله بن عباس إني رجل من أهل العراق أصور هذه التصاوير فقال بن عباس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من صور صورة يكلف يوم القيامة أن ينفخ فيها وليس بنافخ‏.‏

وأما اختلاف العلماء في هذا الباب فعلى حسب اختلاف الآثار فيه وتأويلها فكان بن شهاب فيما ذكر عنه معمر وغيره يكره التصاوير في الثياب وغيرها ما نصب منها وما بسط على ظاهر حديثه هذا عن القاسم عن عائشة وقالت طائفة إنما يكره من التصاوير ما كان في حيطان البيوت‏.‏

وأما ما كان رقما في ثوب فلا على حديث سهل بن حنيف وسواء كان الثوب منصوبا أو مبسوطا وممن قال بذلك القاسم بن محمد وهو خلاف ظاهر حديث عائشة المتقدم ذكره من روايته عنها ذكر بن أبي شيبة عن أزهر عن بن عون قال دخلت على القاسم بن محمد وهو في بيته بأعلى مكة ورأيت في بيته حجلة فيها تصاوير السندس والعنقاء وقال آخرون لا يجوز استعمال شيء من الثياب التي فيها الصور إذا كان الثوب ينصب أو يلبس وإنما يجوز من ذلك ما كان يوطأ وذكروا ما رواه وكيع عن أسامة بن زيد عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قالت سترت سهوة لي بستر فيه تصاوير فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم هتكه فجعلته مسندتين فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم متكئا على إحداهما فقالوا ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كره من ذلك ما كان سترا منصوبا ولم يكره ما اتكئ عليه من ذلك ويوطأ قال أبو عمر يحتمل أن يكون الستر لما هتكه تهتكت صوره فلم يبق منه صورة تامة وكذلك اتكأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تكون حينئذ في هذا الحديث حجة على بن شهاب إلا أن جماعة من السلف قد ذهبوا هذا المذهب فيما يوطأ ويمتهن بالاتكاء وشبهه أنه لا بأس به وأنه خلاف المنصوب ذكر بن أبي شيبة عن حفص بن غياث عن الجعد عن عائشة بنت سعد بن أبي وقاص أن أباها جاء من فارس بوسائد فيها تماثيل فكنا نبسطها وعن بن فضيل عن ليث قال رأيت سالم بن عبد الله متكئا على وسادة حمراء فيها تماثيل فقلت له في ذلك فقال إنما يكره هذا لمن ينصبه ويصنعه وعن بن المبارك عن هشام بن عروة أن أباه كان يتكئ على المرافق التي فيها التماثيل الطير والرجال وعن بن علية عن سلمة بن علقمة عن محمد بن سيرين قال كانوا لا يرون بأسا بما وطىء وبسط من التصاوير وكان بن سيرين لا يرى بذلك بأسا وكان عكرمة يقول في التصاوير في الوسائد والبسط التي توطأ هو أذل لها قال وكانوا يكرهون ما نصب من التماثيل ولا يرون بأسا بما وطأته الأقدام وعن سعيد بن جبير وعكرمة بن خالد وعطاء بن أبي رباح أنهم كانوا لا يرون بأسا بما يوطأ ويبسط من الصور قال أبو عمر هذا المذهب أوسط المذاهب في هذا الباب وقد قال قوم ما قطع رأسه فليس بصورة وروي ذلك عن بن عباس وقالت به طائفة واحتج بعضهم بحديث بن المبارك عن يونس بن أبي إسحاق عن مجاهد عن أبي هريرة أنه حدثه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن جبريل أتاني البارحة فلم يمنعه أن يدخل علي إلا أنه كان في البيت حجال وستر فيه تماثيل وكلب فأمر بالتمثال أن تقطع رأسه وبالستر أن يشق ويجعل منه وسادتان تؤطآن وبالكلب أن يخرج قال أبو عمر ذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يكره من الصور إلا ما له ظل مما له روح من تمثال النحاس والجواهر كلها والطين وكل ما إذا صور كان له ظل وذهب غيرهم من أهل العلم إلى أن المكروه من الصور ما كان له روح من كل حيوان من أي شيء صنع كان له ظل أو لم يكن وحجتهم في ذلك حديث بن شهاب عن القاسم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون يقال لهم أحيوا ما خلقتم وقد حدثني أحمد بن قاسم قال حدثني قاسم قال حدثني الحارث بن أبي أسامة قال حدثني هوذة بن خليفة قال حدثني عوف عن سعيد بن أبي الحسن سمع بن عباس يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من صور صورة فإن الله معذبه يوم القيامة حتى ينفخ فيها الروح وليس بنافخ قال أبو عمر لا أعلم أحدا كره صور الشجر إلا مجاهدا فإن بن أبي شيبة ذكر عن عبد السلام عن ليث عن مجاهد أنه كان يكره أن يصور الشجر المثمر‏.‏

باب ما جاء في أكل الضب

1806- مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة عن سليمان بن يسار أنه قال دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة بنت الحارث فإذا ضباب فيها بيض ومعه عبد الله بن عباس وخالد بن الوليد فقال من أين لكم هذا فقالت أهدته لي أختي هزيلة بنت الحارث فقال لعبد الله بن عباس وخالد بن الوليد كلا فقالا أولا تأكل أنت يا رسول الله فقال إني تحضرني من الله حاضرة قالت ميمونة أنسقيك يا رسول الله من لبن عندنا فقال نعم فلما شرب قال من أين لكم هذا فقالت أهدته لي أختي هزيلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيتك جاريتك التي كنت استأمرتيني في عتقها أعطيها أختك وصلي بها رحمك ترعى عليها فإنه خير لك قال أبو عمر قد ذكرنا اختلاف ألفاظ رواة الموطأ في ألفاظ هذا الحديث في التمهيد ولم يختلفوا في إسناده وكلهم يرسله عن سليمان بن يسار وما في هذا الحديث من أكل الضب فسيأتي في الحديثين اللذين بعد في هذا الباب إن شاء الله عز وجل‏.‏

وأما قوله عليه السلام فإنه تحضرني من الله حاضرة فهو عندي مفسر لما ذكره بن شهاب في حديثه المذكور بعد هذا قوله صلى الله عليه وسلم إنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه وقد روي عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قذر الضب ولم يأكله وقد ذكرنا هذا الحديث بإسناده في التمهيد وأصح ما يروى من المسند في معنى حديث هذا الباب ما حدثنا قاسم بن محمد قال حدثني خالد بن سعد قال حدثني محمد بن فطيس قال حدثني إبراهيم بن مرزوق قال حدثني وهب بن جرير قال حدثني شعبة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن بن عباس قال أهدت خالتي أم حفيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم أقطا وسمنا وأضبا قال فأكل النبي صلى الله عليه وسلم من الأقط والسمن ولم يأكل من الأضب وأكل على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان حراما لم يؤكل على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو عمر وفي هذا الحديث دليل واضح على أن الصدقة على ذي الرحم القريبة أفضل من العتق لقوله صلى الله عليه وسلم أرأيت وكذلك يرويه جماعة من رواة الموطأ جاريتك التي استأمرتني في عتقها أعطيها أختك وصلي بها رحمك فأنه خير لك‏.‏

وحدثني سعيد وعبد الوارث قالا حدثني قاسم بن أصبغ قال حدثني محمد قال حدثني أبو بكر قال حدثنا يعلى قال حدثني محمد بن إسحاق عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن سليمان بن يسار عن ميمونة قالت كانت لي جارية فأعتقتها فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على فأخبرته بعتقها فقال آجرك الله أما أنك لو أعطيتها أخوالك لكان أعظم لأجرك ورواه أسد بن موسى قال حدثني أبو معاوية محمد بن خازم عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ميمونة أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم خادما فأعطاها خادما فأعتقتها فقال ما فعلت الخادم قلت يا رسول الله أعتقتها فقال أما أنك لو أعطيتها أخوالك لكان أعظم لأجرك قال أبو عمر فهذان إسنادان عند محمد بن إسحاق لهذا الحديث فإن لم يكن كذلك فرواية يعلى بن عبيد أولى بالصواب من رواية أبي معاوية لشهادة حديث مالك له بذلك ولأن أبا معاوية كثير الخطأ جدا فيما يرويه عن المدنيين وعن غير الأعمش قال‏.‏

وحدثني عبد الرحمن بن يحيى قال حدثني أحمد بن سعيد قال حدثني محمد بن إبراهيم الديلي قال حدثني عبد الحميد بن صبيح قال حدثني سفيان بن عيينة عن بن طاوس عن أبيه أن ميمونة أعتقت جارية لها فقال النبي صلى الله عليه وسلم أفلا أعطيتيها أختك الأعرابية قال أبو عمر وهذه الأخت الأعرابية هي هذيلة أم حفيد المذكورة في حديث مالك والله أعلم وأخوات ميمونة لأبيها وأمها لبابة الكبرى ولبابة الصغرى وعصماء وغراء وهذيلة أم حفيد بنات الحارث بن حزن الهلالي وأمهن هند بنت عوف الكنانية وقيل الحميرية وأخواتهن لأمهن أسماء وسلمى وسلامة الخثعميات وهن تسع أخوات منهن ست لأب وأم وثلاث لأم‏.‏

1807- مالك عن بن شهاب عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عبد الله بن عباس عن خالد بن الوليد بن المغيرة أنه دخل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فأتي بضب محنوذ فأهوى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فقال بعض النسوة اللاتي في بيت ميمونة أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يريد أن يأكل منه فقيل هو ضب يا رسول الله فرفع يده فقلت أحرام هو يا رسول الله فقال لا ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه قال خالد فاجتررته فأكلته ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر قال أبو عمر الضب دويبة معروفة بأرض اليمن وأرض نجد ولم يكن بأرض الحجاز ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه وقد يحتمل قوله لم يكن مأكولا بأرض قومي فأكثر أهل الحجاز لا يأكلونه وقد نقل أهل الأخبار أن مدنيا سأل أعرابيا من اليمن فقال أتأكلون الضب قال نعم قال واليربوع قال نعم قال والقنفذ قال نعم قال والورل قال نعم قال أفتأكلون أم حبين قال لا قلت فليهني أم حبين العافية قال أبو عمر مما يدل على أن الضب يوجد في بعض دون بعض قول بعض العرب‏:‏

بلاد يكون الخيم أظلال أهلها *** إذا حضروا بالقيظ والضب نونها

وقال بعض بني تميم‏:‏

لكسرى كان أعقل من تميم *** ليالي فر من أرض الضباب

وأما خلق الضب فكما قال شاعرهم‏:‏

له كف إنسان وخلق غطاءة *** وكالقرد والخنزير في المسخ والعصب

وقد ذكرنا في التمهيد من شواهد هذا المعنى أكثر من هذا والحمد لله وذكرنا هناك اختلاف الناس في أكل الضب ومن كره أكله من العلماء بحديث حصين عن زيد بن وهب عن ثابت بن وديعة قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيش فأصبنا ضبابا قال فشويت منها ضبا وأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه بين يديه قال فأخذ عودا فعد به أصابعه ثم قال إن أمة من بني إسرائيل مسخت دواب في الأرض ولا أدري أي الدواب هي قال فلم يأكل منه ولم ينه قال أبو عمر قد ذكرت هذا الحديث من طرق في التمهيد وذكرت خلاف الأعمش لحصين في إسناده وذكرت ما يعضده وما يخالفه مثل حديث بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن القردة والخنازير أهي من الذين مسخوا قال إن الله تعالى لم يهلك قوما ولم يمسخ قوما فجعل لهم نسلا ولا عاقبة ولكنهم من شيء كان قبل ذلك رواه مسعر عن علقمة بن مرثد عن المغيرة اليشكري عن المعرور بن سويد عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكرناه من طرق في التمهيد والمحنوذ المشوي في التنور وشبهه يقال حنيذ ومحنوذ كما يقال قتيل ومقتول قال الله تعالى ف ‏(‏جاء بعجل حنيذ‏)‏ ‏[‏هود 69‏]‏‏.‏ أي مشوي‏.‏

1808- مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أن رجلا نادى رسول الله فقال يا رسول الله ‏!‏ ما ترى في الضب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لست بآكله ولا بمحرمه قال أبو عمر الفقه في هذا الباب ما قاله بن عباس مما قد ذكرناه في هذا الباب‏.‏

وحدثنا أيضا أحمد بن قاسم وعبد الوارث بن سفيان قالا حدثني قاسم بن أصبغ قال حدثني الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا كثير بن هشام قال حدثني جعفر بن برقان قال حدثني يزيد بن الأصم قال ذكر الضب عند بن عباس فقال بعض جلسائه أتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يحله ولم يحرمه فقال بن عباس بئس ما تقولون إنما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم محلا ومحرما جاءت أم حفيد تزور أختها ميمونة بنت الحارث ومعها طعام فيه لحم ضب فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما أغسق - يعني أظلم - فقرب إليه الطعام فكرهت ميمونة أن يأكل النبي صلى الله عليه وسلم من طعام لا يعلم ما هو فقالت يا رسول الله إن فيه لحم ضب فأمسك رسول الله وأمسكت ميمونة وأكل من كان عنده قال بن عباس فلو كان حراما لنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكله‏.‏

باب ما جاء في أمر الكلاب

1809- مالك عن يزيد بن خصيفة أن السائب بن يزيد أخبره أنه سمع سفيان بن أبي زهير وهو رجل من أزد شنوءة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث ناسا معه عند باب المسجد فقال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من اقتنى كلبا لا يغنى عنه زرعا ولا ضرعا نقص من عمله كل يوم قيراط قال أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إي ورب هذا المسجد‏.‏

1810- مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من اقتنى كلبا إلا كلبا ضاريا أو كلب ماشية نقص من عمله كل يوم قيراطان قال أبو عمر وقد ذكرنا الاختلاف في إسناد هذا الحديث وفي لفظه في التمهيد وفي حديث بن عمر هذا وحديث سفيان بن أبي زهير إباحة اتخاذ الكلاب للصيد والزرع والماشية دون ما عدا ذلك ويدخل عندي في معنى الصيد والزرع والماشية جواز اتخاذ الكلاب في البادية جملة لأن الأغلب من أمرها الزرع والماشية والصيد تجد ذلك في البادية والحاضرة والله أعلم وروي من حديث يونس عن الحسن عن عبد الله بن مغفل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من اتخذ كلبا ليس كلب صيد ولا ماشية ولا حرث نقص من أجره كل يوم قيراط قال أبو عمر الحرث يدخل فيه الكرم والزرع ولم يختلف العلماء في تأويل قول الله عز وجل ‏(‏وداود وسليمن إذ يحكمان في الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم‏)‏ ‏[‏الأنبياء 78‏]‏‏.‏

أنه كان كرما وفي معنى الزرع والكرم والغنم عندي منافع البادية كلها من الطارق وغيره والله أعلم وقد سئل هشام بن عروة عن اتخاذ الكلاب للدار فقال لا بأس به إذا كان موضع الدار مخوفا وأجاز مالك اقتناء الكلاب للزرع والصيد والماشية وكان بن عمر لا يجيز اتخاذ الكلب إلا للصيد والماشية خاصة ووقف عندما سمع ولم يبلغه ما روى أبو هريرة وسفيان بن أبي زهير وبن مغفل وغيرهم في ذلك وفي هذا الحديث دليل على أن اتخاذ الكلاب ليس بمحرم وإن كان ذلك الاتخاذ لغير الزرع والضرع والصيد لأن قوله من اتخذ كلبا - أو اقتنى كلبا لا يغني عنه زرعا ولا ضرعا ولا اتخذه للصيد نقص من أجره كل يوم قيراط يدل على الإباحة لا على التحريم لأن المحرمات لا يقال فيها من فعل هذا نقص من عمله أو من أجره كذا بل ينهى عنه لئلا يواقع المطيع شيئا منها وإنما يدل ذلك اللفظ على الكراهة لا على التحريم والله أعلم‏.‏

وأما نقصان الأجر فإن ذلك -والله أعلم- لما يقع من التفريط في غسل الإناء من ولوغ الكلاب لمن له اتخاذها ومن التقصير عن القيام لما يجب عليه في ذلك من عدد الغسلات وقد يكون لما جاء في الحديث بأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب وقد مضى القول في ذلك وقد يكون في التقصير في الإحسان إلى الكلب لأنه قانع ناظر إلى يد متخذه ففي الإحسان إليه أجر كما قال صلى الله عليه وسلم في كل ذي كبد رطبة أجر وفي الإساءة إليه بتضييقة وزر وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلا هي أطعمتها ولا هي أطلقتها تأكل من خشاش الأرض هذا والهر يفترس ويطلب رزقه والكلب ليس كذلك وقد يكون لما قال الحسن وغيره روى حماد بن يزيد عن واصل مولى أبي عيينة قال سأل الحسن رجل فقال يا أبا سعيد أرأيت ما ذكر في الكلب أنه ينقص من أجر أهله كل يوم قيراط قال فذكر ذلك فقيل له مم ذلك يا أبا سعيد قال لترويعه المسلم وذكر بن سعد عن الأصمعي قال قال أبو جعفر المنصور لعمرو بن عبيد ما بلغك في الكلب قال بلغني أنه من اقتنى كلبا لغير زرع ولا حراسة نقص من أجره كل يوم قيراط قال ولم قال هكذا جاء الحديث قال خذها بحقها وإنما ذلك لأنه ينبح الضيف ويروع السائل‏.‏

1811- مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب قال أبو عمر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب يدل على أنها لا تؤكل لأن ما يجوز أكله لم يجز قتله إذا كان مقدورا عليه ولا يؤكل حتى يذبح أو ينحر وإن كان صيدا ممتنعا حل بالتسمية رميه وقتله كيف أمكن مادام ممتنعا ألا ترى إلى ما جاء عن عمر وعثمان رضي الله عنهما - لما ظهر في المدينة اللعب بالحمام والمهارشة بين الكلاب أنهما كانا يأمران بقتل الكلاب وذبح الحمام ففرق بين ما يؤكل وبين ما لا يؤكل قال الحسن بن أبي الحسن سمعت عثمان يقول في خطبته اقتلوا الكلاب واذبحوا الحمام وقد اختلفت الآثار في قتل الكلاب واختلف العلماء في ذلك أيضا فذهب جماعة من أهل العلم منهم عبد الله بن عمر ومالك بن أنس أن الأمر بقتل الكلاب كلها إلا ما ورد الحديث في إباحة اتخاذه منها للصيد والماشية قال مالك وللزرع أيضا ومن حجتهم حديث بن شهاب عن سالم عن أبيه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم رافعا صوته يأمر بقتل الكلاب وكانت الكلاب تقتل إلا كلب صيد أو ماشية وروى عبيد الله بن عمر عن نافع عن بن عمر قال أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب وأرسل في أقطار المدينة لتقتل وروى حماد بن سلمة عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب حتى إن المرأة لتدخل بالكلب فما تخرج حتى يقتل وروى شعبة عن أبي التياح عن مطرف بن عبد الله عن عبد الله بن مغفل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب ورخص في كلب الزرع والصيد وجاء الأمر بقتلها عن أبي بكر وعمر وعثمان - رضي الله عنهم وروى حماد بن زيد عن أيوب عن نافع أن بن عمر دخل أرضا له فرأى كلبا فهم أن يقع بقيم أرضه فقال إنه كلب عابر دخل الآن قال فأخذ المسحاة وقال حرشوه علي فقتله وقال جماعة من أهل العلم الأمر بقتل الكلاب منسوخ إلا في الأسود البهيم فإنه يقتل ومن حجتهم ما حدثنا سعيد قال حدثني قاسم قال حدثني محمد قال حدثني أبو بكر قال حدثني أحمد بن عبد الله بن يونس قال حدثني أبو شهاب عن يونس بن عبيد عن الحسن عن عبد الله بن مغفل قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها فاقتلوا منها الأسود البهيم قال فدخل ما عدا الأسود البهيم في أن لا يقتل وقال بعض من ذهب هذا المذهب الأسود البهيم من الكلاب أكثر أذى وأبعدها من تعلم ما ينفع ورووا أن الكلب البهيم الأسود شيطان أي بعيد من الخير والمنافع قريب من الضر والأذى وهذا شأن الشياطين من الإنس والجن وروي عن الحسن وإبراهيم أنهما كانا يكرهان صيد الكلب الأسود فقالت طائفة إنه يقطع الصلاة وقد ذكرنا الحديث بذلك في كتاب الصلاة وبينا أن ذلك منسوخ أيضا وروى إسماعيل المكي عن أبي رجاء العطاردي قال سمعت بن عباس يقول السود من الكلاب الجن والبقع الحن وأنشد بعضهم في الجن والحن قال الشاعر‏:‏

إن تكتبوا الزمنى فإني لزمن *** في ظاهري داء ودائي مستكن

أبيت أهوى في شياطين ترن *** مختلف نجارهم جن وحن

وقال صاحب العين الحن حي من الجن منهم الكلاب البهم يقال منه كلب جني قال أبو عمر وذهب كثير من العلماء إلى أن لا يقتل من الكلاب أسود ولا غير أسود إلا أن يكون عقورا مؤذيا وقالوا الأمر بقتل الكلاب منسوخ يقول صلى الله عليه وسلم لا تتخذوا شيئا فيه الروح غرضا فدخل في نهيه ذلك الكلاب وغيرها وقال صلى الله عليه وسلم خمس من الدواب يقتلن في الحل والحرم فذكر منها الكلب العقور فخص العقور دون غيره فقد قيل إن الكلب العقور ها هنا الأسد وما أشبهه من عقاره سباع الوحش واحتجوا بالحديث الصحيح في الكلب الذي كان يلهث عطشا فسقاه الرجل فشكر الله له ذلك وغفر له بذلك وقال في كل كبد رطبة أجر حدثني سعيد بن نصر قال حدثني قاسم بن أصبغ قال حدثني محمد بن وضاح قال حدثني أبو بكر بن أبي شيبة قال حدثني أبو خالد الأحمر عن هشام عن محمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم حار يطيف ببئر قد أدلع لسانه من العطش فنزعت له بموقها فغفر لها قال أبو عمر وليس هذه حال من يجب قتله لأن المأمور بقتله مأجور قاتله ومأجور المعين على قتله وإذا كان في الإحسان إلى الكلب أجر ففي الإساءة إليه وزر والإساءة إليه أعظم من قتله وليس في قوله صلى الله عليه وسلم الكلب الأسود البهيم شيطان ما يدل على قتله لأن شياطين الجن والإنس لم يؤمر بقتلهم وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا يتبع حمامة فقال شيطان يتبع شيطانه وقالوا إن قتل الكلاب منسوخ بسورة المائدة وقوله عز وجل ‏(‏وما علمتم من الجوارح مكلبين‏)‏ ‏[‏المائدة 4‏]‏‏.‏

وليس هذا عندي بالبين لأن كلب الصيد لم يؤمر بقتله بل أبيح لنا بالنص اتخاذه وما أبيح لنا اتخاذه لم يجز قتله وقد أوضحنا هذا المعنى في مواضع من التمهيد والحمد لله كثيرا‏.‏